الوسطــية في الإســـــلام
ثالثًا: الأصول التي كان أهل السنة وسطًا فيها بين فرق هذه الأمة:
قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: فرق هذه الأمة ثلاث وسبعون فرقة والناجي منها من كان على مثل ما عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وكلها في النار إلا الناجية؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : “افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة”. قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي.
الأول: أسماء الله وصفاته:
أهل السنة وسط فيها بين أهل التعطيل وأهل التشبيه لأن أهل التعطيل ينكرون صفات الله، وأهل التشبيه يثبتونها مع التشبيه، وأهل السنة يثبتونها بلا تشبيه.
والقدرية: ينكرون قضاء الله في أفعال العبد، ويقولون: إن العبد قادر مختار لا يتعلق فعله بقضاء الله.
أهل السنة: يثبتون قضاء الله في أفعال العبد، ويقولون: إن له قدرة واختيارا أودعهما الله فيه متعلقين بقضاء الله.
والمرجئة يقولون: لا يدخل النار ولا يستحق ذلك، وأهل السنة يقولون: مستحق لدخول النار دون الخلود فيها.
لكن المعتزلة يقولون: لا مؤمن ولا كافر في منزلة بين منزلتين، والحرورية يقولون: إنه كافر.
وأهل السنة يقولون: إنه مؤمن ناقص الإيمان أو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته.
الخامس: أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فأهل السنة وسط بين الروافض والخوارج؛ لأن الروافض بالغوا في حب آل النبي صلى الله عليه وسلم وغلوا فيهم حتى أنزلوهم فوق منزلتهم.
والخوارج يبغضونهم ويسبونهم.
وأهل السنة: يحبون الصحابة جميعهم وينزلون كل واحد منزلته التي يستحقها من غير غلو ولا تقصير.
قال العلامة ابن جبرين: “الإسلام بين الغلو والجفاء”.
توسط أهل السنة في مسألة أولياء الله:
هناك طائفتان متطرفتان في حق الأولياء، طائفة قد غلت، وطائفة قد جفت، فالطائفة الأولى هم الذين غلوا، وهم الذين يعبدون الأولياء، والولي عندهم هو الرجل الصالح الذي قد حصّل من القرب ومن الصلاح في العمل ما سبّب حب الله له، وأنه ولي من أولياء الله، يجري الله على يديه أو لسانه أو لسان غيره، أو على يد غيره كرامة، قالوا: فهذا الولي يستحق منا أن نقدسه فصاروا في حياته يغلون فيه، فيتمسحون به وبثيابه، ويتبركون بما مسَّه من ماء، أو غيره، وصاروا بعد موته يعكفون عند قبره، ويتمسحون به، ويصلون عنده، ويعتقدون أن للصلاة عنده مزية، وفي مضاعفة حسناتهم، وهم أيضًا يعملون عند قبره من الأعمال ما لا يصلح أن تكون إلا لله وحده، فهؤلاء قد غلوا وتجاوزوا حدهم وطورهم.
أما الطائفة الثانية: فهم الذين لا يرون لعباد الله الصالحين قدرًا، ولا يقيمون لهم وزنًا، فلا يحبونهم، ولا يقتدون بهم ولا يتبعون سيرتهم، بل يحقرون من شأنهم، ويحتقرونهم في أعمالهم ويدّعون أنهم- كما يقولون- أهل تشدد، وأهل جمود، أو أهل رجعية وتقهقر، أو ما أشبه ذلك من عباراتهم السيئة.
فهؤلاء قد فرطوا، وأولئك قد أفرطوا.
أما أهل السنة: فقد توسطوا في باب أولياء الله من الصالحين والمؤمنين والأتقياء فأحبوهم، ولكن تلك المحبة لا تصل إلى أن نتمسح بترتبهم، ولا تصل كذلك إلى أن نصرف لهم شيئًا من حق الله، كأن نذبح لهم من دون الله، بل محبتنا لهم تستدعي أن نبحث عن سيرتهم وسنتهم فنعمل بها حتى نكون مثلهم.
فإذا رأيناهم يتهجدون بالليل تهجدنا، وإذا ذكر لنا أنهم يكثرون من القراءة والخشوع، أكثرنا من ذلك.
فتحملنا محبتهم أن نعمل مثلهم وأن نصلح من أعمالنا ما أصلحوه؛ سواء كانوا أولياء أو سادة أو صالحين أو ذوي فضل، أو ذوي سبق فكلهم في حق الله سواء.
نحبهم وتحملنا محبتهم على أن نقتدي بهم.
(قلت: ما داموا على الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة معتقدًا وقولاً وعملاً ومنهجًا وسلوكًا وإلا ما كانوا أولياء كما هو معلوم).
فإذا كنا كذلك نكون متوسطين بين هؤلاء وهؤلاء، لا إفراط ولا تفريط. اه.
لذا فإن العلامة ابن عثيمين رحمه الله تعالى قال في فتاويه: الوسط في الدين: أن يتمسك بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم .
الغلو في الدين: أن يتجاوزها.
والتقصير: أن لا يبلغها.
فنقول هذا: غالى في دين الله، وليس على حق.
وقد وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مثل هذا كما ثبت في الصحيحين من حديث أنس بن مالك قال: “جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ؟ قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال أحدهم: أما أنا فأنا أصلي الليل أبدًا، وقال الآخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء، فلا أتزوج أبدًا. فجاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فقال: “أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني”.
فهؤلاء غلو في الدين وتبرأ منهم الرسول صلى الله عليه وسلم لأنهم رغبوا عن سنته صلى الله عليه وسلم التي فيها صوم وإفطار وقيام ونوم وتزوج نساء.
أما المقصر: فهو الذي يقول لا حاجة لي بالتطوع فأنا لا أتطوع وآتي بالفريضة فقط، وربما أيضًا يقصر في الفرائض فهذا مقصر.
والمعتدل: هو الذي يتمشى على ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون.
مثال: ثلاثة رجال أمامهم رجل فاسق.
قال أحدهم: أنا لا أسلم على هذا الفاسق وأهجره وأبتعد عنه ولا أكلمه.
والثاني يقول: أنا أمشي مع هذا الفاسق وأسلم عليه وأبش في وجهه وأدعوه عندي وأجيب دعوته وليس عندي إلا رجلاً صالحًا.
والثالث يقول: هذا الفاسق أكرهه لفسقه وأحبه لإيمانه ولا أهجره إلا حيث يكون الهجر سببًا لإصلاحه.
فإن لم يكن الهجر سببًا لإصلاحه بل كان سببًا لازدياده في فسقه فأنا لا أهجره.
فنقول: الأول: مفطر غالٍ، من الغلو.
والثاني: مفرط مقصر.
والثالث: متوسط.
وهكذا نقول في سائر العبادات ومعاملات الخلق الناس فيما بين: مقصر، وغالٍ، ومتوسط.
مثال: رجل كان أسيرًا لامرأته توجهه حيث شاءت لا يردها عن إثم ولا يحثها على فضيلة قد ملكت عقله وصارت هي القوَّامة عليه.
ورجل آخر عنده تعسف وتكبر وترفع على امرأته لا يبالي بها وكأنها عنده أقل من الخادم.
ورجل ثالث: وسط يعاملها كما أمر الله ورسوله: ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف {البقرة: 228}.
والحديث الثابت في صحيح مسلم حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم : “لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقًا رضي منها آخر”.
فهذا الأخير: متوسط. والأول: غالٍ في معاملة زوجته. والثاني: مقصر.
وقس على هذه بقية الأعمال والعبادات.
الإسلام وسط بين اليهودية والنصرانية
فيما يتعلق بالأعمال:
قال العلامة ابن جبرين: المثال الأول: فاليهود يرون الطلاق ولا يرون الرجعة، فلو طُلقت الزوجة فلا رجعة عليها لزوجها.
أما النصارى: فيرون أن لا طلاق، فمتى عقد الإنسان فلا طلاق له، ولا يحق له الطلاق.
وجاء الإسلام فتوسط: وجعل للإنسان أن يطلق للحاجة متى شاء، وأن يراجع بعد الطلقة الأولى، وبعد الثانية، فقد يتعجل الإنسان في أمر لا بد فيه من الأناة فيستدرك ذلك بعد حين.
المثال الثاني: اليهود يرون القصاص في القتل حتمًا وليس هناك مجال للعفو، بينما يرى النصارى العفو حتمًا.
فجاء الإسلام بالتخيير: وذلك بتخيير ولي المقتول بين القصاص وبين العفو وأخذ الدية أو العفو مطلقًا فصار بذلك متوسطًا، لا إلزام بالعفو، ولا إلزام بالقصاص، بل توسط بينهما.
المثال الثالث: كذلك جاء الإسلام أيضًا في أحكام المجازاة ونحوها، فقد أباح الله سبحانه وتعالى المجازاة على الأعمال بمثلها، كما في قوله تعالى: وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين {النحل: 126}.
كما أباح للإنسان أن يعاقب من يعتدي عليه بالمثل في قوله تعالى: فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم {البقرة: 194}.
أي بالمثل فقط لا بالزيادة، ولكن فضل الصبر لقوله: ولئن صبرتم لهو خير للصابرين.
لكن دين النصارى يأمرهم بأن يعفو وأن لا ينتصروا ولا ينتقموا لأنفسهم أبدًا.
ودين اليهود: يحتم عليه بأن يستوفي وأن يقتص.
فالإسلام: جاء بهذا الدين الذي لا إفراط فيه ولا تفريط. اه.
وترى الإسلام وسطًا في نظامه الاقتصادي بين الرأسمالية والشيوعية وكذلك في النظام الاجتماعي بين الطرفين السالفين المشار إليهما، ووسط في نظامه السياسي بين الديمقراطية والديكتاتورية فهو وسط في كل شيء، فأحمد الذي منَّ علينا بالإسلام، ونسأله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يقبضنا عليه ويجعلنا من العاملين به الداعين إليه على بصيرة بالحكمة والموعظة الحسنة.
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على رسولنا محمد وآله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.